فلسطين

يشكلون أزمة في إسرائيل: من هم الحريديم؟

عادت طائفة الحريديم لتصدر واجهة الأزمات مرة أخرى في المجتمع الإسرائيلي، فمن هم الحريديم أصلًا؟ وما الذي يميزهم عن غيرهم من اليهود؟

future مظاهرة ضد تجنيد الحريديم في الجيش الإسرائيلي

عادت طائفة الحريديم لتصدُّر واجهة الأزمات مرة أخرى في المجتمع الإسرائيلي، بعد القرار الذي أصدرته المحكمة الإسرائيلية العليا بإلزامية تجنيد الشباب الحريدي، بعد ما يقرب من 75 عامًا، وهم معفون من الخدمة الإلزامية في الجيش الإسرائيلي، والذي بدأ بقرار من دافيد بن جوريون في 1949، حينما قرر إعفاء نحو 400 شاب من طلاب المدارس الدينية من تأدية الخدمة العسكرية، ما داموا منغمسين بدراسة التوراة فقط.

تتمثل الأصولية اليهودية في إسرائيل في الحريديم، وهذه الطائفة تحديدًا تُعرف بإثارتها للجدل في كثيرٍ من الأحيان، بدءًا من التزامهم الصارم بالشريعة اليهودية بحذافيرها دون تحييد أو تعديل، أو حتى مواكبة العصر الحديث، وصولًا إلى رفض الخدمة الإجبارية في الجيش الإسرائيلي انطلاقًا من زعمهم ضرورة التركيز على دراسة التوراة، فمن هم الحريديم؟ وما الذي يميِّزهم عن غيرهم من اليهود؟

المختارون وسط الشعب المختار

بحسب البيانات التي نشرها المعهد الحريدي للدراسات السياسية نهاية عام 2023، فإن عدد السكان الأرثوذكس المتطرفين (الحريديم) بلغ نحو 1.25 مليون نسمة، منهم: 34.4% ليتوانيون (نشأت المدرسة الدينية الليتوانية في القرن الـ18، وهي أحد أكبر الجماعات الحريدية، وبرزت كحركة فكرية دينية جديدة داخل المجتمع اليهودي، تركز على دراسة التوراة والشريعة اليهودية)، حوالي 430 ألف شخص. 32.8% أشكناز (نشأت في القرن الـ16 في أوروبا الشرقية، كردّة فعل على اتساع رقعة حركة التنوير اليهودية الهاسكالاه التي دعت إلى التخلُّص من بعض الممارسات الدينية التقليدية والانفتاح على الثقافة الأوروبية)، حوالي 410 آلاف نسمة. و28.8% الحسيديم (الحسيديم المجموعة الأخرى الكبرى في المجتمع الحريدي، ولا يختلفون كثيرًا عن الليتوانيين؛ إذ إنها نشأت في منتصف القرن الـ18، وانتشرت بسرعة بين يهود أوروبا الشرقية)، حوالي 360 ألف نسمة. 4% حاباد، حوالي 50 ألف نسمة (نشأت في القرن الـ18 في مدينة ليوبافيتش في روسيا البيضاء، على يد الحاخام شنيور زلمان من لوبافيتش، الذي يعتبر مؤسس الحركة).

وتعيش الغالبية العظمى من المجتمع الحريدي بنحو 74% في سبع مستوطنات: بني براك، بيت شيمش، القدس، إلعاد، بيتار عيليت، أشدود، وموديعين عيليت، ومن المتوقع أن يبلغ عددهم بحلول عام 2065 نحو 6.4 مليون نسمة، أي 32% من السكان.

كل الطوائف المذكورة آنفًا تقع تحت الطائفة الحريدية، ولكل منهم قصة ونشأة مختلفة، وبينهم اختلافات أيضًا حتى في طريقة الملبس؛ فمثلًا:

الليتوانيون يرتدون قبعة سوداء، وربطة عنق خاصة في أيام السبت والأعياد، وقميصًا أبيض وبدلة سوداء قصيرة وسراويل وحذاءً أسود، بالإضافة إلى أن بعض الليتوانيين يزرعون شعرًا مستعارًا قصيرًا عادة خلف الأذن، على عكس الحسيديم الذين يتجعد شعرهم المستعار على جانبي الرأس.

الحسيديم يرتدون قبعة مستديرة من الفرو، معطفًا طويلًا، وجوارب بيضاء تمتد فوق البنطلون، حبلًا أسود مربوطًا كنوع من الحزام الخارجي للملابس، ولا يربطون ربطة العنق، ولا يحلقون أو يشذبون لحاهم، وأحيانًا يزرعون باروكات طويلة مجعدة.

ماذا تعني كلمة حريدي باللغة العبرية؟

تعني كلمة حريدي: الخائف من الله، أو متقي الله. وخلال التاريخ اليهودي المبكر كانت تعني خشية الله، وتجاوزًا تعني التقي، أما في منتصف القرن الـ19، فقد استُخدِمت أولًا في ألمانيا والمجر، وبعد ذلك في أجزاء أخرى من الشتات، كاسم لليهود المتدينين الذين يعارضون أي اختراع حديث.

اليهودي الأرثوذكسي المتطرف هو الشخص الذي يعتبر نفسه ملتزمًا بالشريعة اليهودية التقليدية، وملتزمًا بالحاخامات كموجهين ومعلمين وآمرين وناهين؛ بالإضافة إلى إظهاره موقفًا متحفظًا تجاه الصهيونية وإسرائيل لأسباب دينية، ويحافظ إلى حد كبير على الملابس اليهودية التقليدية، وهو اللباس الصارم، مع احتشام ملابس النساء، وينتقد معظم قيم الثقافة الحديثة وينظر بشكل إيجابي إلى الحياة في المناطق السكنية المنفصلة، ​​أي تلك التي لا يوجد بها حضور متزايد للصهاينة العلمانيين والمتدينين.

وبالنسبة لليهودي فإن اللغة العبرية هي لغة مقدسة لا يمكن استخدامها في الحياة العامة، بل إنه يجب استخدام لغة أخرى، لذلك يستخدم اليهود الحريديم اللغة اليديشية، وهي مزيج بين اللغة العبرية واللغة الألمانية، والتي نشأت في أوروبا الشرقية. بسبب هذه القناعة اللغوية لا يحب اليهود الحريديم أليعازر بن يهودا الملقب بمحيي اللغة العبرية، ويتهمونه بأنه أساء إلى اللغة العبرية.

وخلال الذكرى الـ150 لإحياء ذكرى ميلاده في الكنيست الإسرائيلي، نُشرت إعلانات في أحد الأحياء الحريدية عن كتاب جديد بعنوان «تطهير اللغة»، ودعا مؤلفه إلى إعادة استخدام اللغة اليديشية مرة أخرى، ووصف أليعازر بأنه الابن الصفيق الذي كان بالكاد يبلغ من العمر 15 عامًا في ذلك الوقت لم يستمع إلى صرخات أمه الأرملة المكسورة، في وصفه لعناد أليعازر ضد أمه للتحدث باللغة العبرية.

وبدأت حركة الحريديم في منتصف القرن الـ18، لمواجهة حركة الهسكالاه أو التنوير، والتي كانت تنادي بالاندماج في المجتمعات الأوروبية، والاتجاه إلى العلمانية، وعدم انغلاق اليهود على أنفسهم في مجتمعات الجيتو.

التقوقع الحاخامي

يستند المجتمع الحريدي داخل إسرائيل إلى أربعة جوانب: الأول هو الانفصال الصارم وطويل الأمد عن المجتمع في جميع مجالات الحياة، والجانب الثاني هو طاعة القيادة الحاخامية الأرثوذكسية المتطرفة، مما ساعده على الحفاظ على صفوف مزدحمة، والجانب الثالث فهو المعنى الروحي ومركزية قيمة تعلم التوراة، والجانب الرابع هو مركزية مؤسسة الأسرة وتوسعها، حيث تنجب اليوم الأسرة الواحدة بمعدل سبعة أطفال تقريبًا، مما أدى لزيادة عددهم في السنوات الماضية بشكل كبير.

ولا ينكر الحريديم حاضر المجتمع الإسرائيلي فحسب، بل أيضًا، وربما قبل كل شيء، التأريخ الصهيوني، وبالتالي يشككون في مستقبل الدولة، باعتبارها تحقيقًا لمصير الشعب اليهودي لأجيال عديدة؛ ففي نظر الجمهور العام، لا يُنظر إلى الحريديم على أنهم شركاء كاملون في الروح الصهيونية الجماعية، بل كمتفرجين يتمتعون بفوائد من الدولة فقط.

على الجانب الآخر يرى الحريديم أنفسهم على أنهم حُرَّاس يهودية إسرائيل، حيث يأتي في مقدمة أولوياتها يوم السبت، الذي يعتبر مقدسًا بالنسبة لليهودية الأرثوذكسية المتطرفة، حيث يعارضون دائمًا تشغيل المواصلات العامة يوم السبت، وإقامة الفعاليات الثقافية التي لا تعبر عن الروح اليهودية المؤمنة، والمطاعم التي تفتح في يوم السبت أيضًا.

 في هذا اليوم الحريدي لا يريد مولًا بل يريد كنيسًا؛ وبدلًا من بناء دور السينما يجب بناء مدرسة دينية، وهو ما يستدعي دائمًا وجود تطورات ومشادات وعنف بين العلمانيين والحريديم.

ومن أبرز خصائص المجتمع الحريدي الفصل بين الجنسين، فداخل المجتمع الحريدي يمكن التعرف على مجتمعين آخرين؛ مجتمع الرجال، ومجتمع النساء، ويركز الخطاب العام على المجتمع الذكوري الحريدي.

قوة سياسية صاعدة

الحريديم في الوقت الحالي سياسيًا يمثلهم حزب شاس، والذي يمثل السفارديم (اليهود الذين جاءُوا من الدول العربية)، وحزب يهودوت هاتورا (يهودية التوراة)، والذي يمثل الأشكنازيم (اليهود الذين جاءُوا من الدول الغربية)، ويختلف الحزبان في الرؤية، ولكن يتفقان في الهدف، وهو كيفية العمل على نيل أكبر امتيازات حكومية ممكنة لمجتمعاتهما ولمدارسهما الدينية.

في السنوات التي تلت إقامة إسرائيل لعبت السياسات الدينية المتطرفة دورًا ثانويًا نسبيًا؛ فلم تتمتع الأحزاب الدينية الحريدية بقوة سياسية كبيرة؛ لكن كل ذلك تغير في 1977، عندما انضم الحريديم إلى ائتلاف مناحيم بيجن؛ حيث كان لحزب أجودات يسرائيل في ذلك الوقت أربعة مقاعد فقط في الكنيست الإسرائيلي؛ لكنها كانت النواة الحقيقية للقوة الحريدية السياسية؛ وفي ثمانينيات القرن الماضي، حين تم تأسيس شاس حصل على أربعة مقاعد، وفي دورة الكنيست الـ12 في 2022، حصل الحريديم على 13 مقعدًا، لكن في الكنيست الحالي بلغ عدد مقاعدهم 11 مقعدًا.

أما الآن فيُعد الحريديم أهمية كبرى لأي ائتلاف سياسي حكومي في إسرائيل، فمن يرغب في تشكيل أي حكومة، بغض النظر عن نتنياهو أو غيره، يجري المفاوضات مع هذين الحزبين.

وينتقد الكثير من كُتَّاب الرأي الإسرائيليون الموقف الحريدي المتشدد تجاه الحياة، وانغماسهم في السياسة حد أعناقهم، ولا يعني انغماس الحريديم في السياسة أنهم يدعمون فكرة الصهيونية؛ فالهدف الرئيسي من وجهة نظر براجماتية بحتة هو الاهتمام برفاهية الحريديم في إسرائيل.

المعضلة الاقتصادية

اقتصاديًا؛ يمثل المجتمع الحريدي عبئًا على اقتصاد إسرائيل؛ إذ إن رجالهم لا يهتمون بسوق العمل، ويظلون لفترات متأخرة من حياتهم في تعلم التوراة؛ وبالتالي فإن المرأة هي المعيل الرئيسي للأسرة في هذه المجتمعات؛ لكن حتى في بعض المجتمعات الحريدية (التي يُطلق عليها الأرثوذكسيون الجدد، الحداثيون) والتي يذهب فيها بعض الرجال إلى العمل؛ فإنهم يقدرون جدًا أقرانهم الذين اختاروا تكريس حياتهم لدراسة التوراة.

لذلك فبالنظر إلى نسبة الرجال الحريديين الذين يعملون مقارنة بالرجال العلمانيين، هي نسبة 51%، وهي أقل بكثير مقارنة بالرجال العلمانيين، والتي تبلغ نحو 88%، رغم أنها في سبعينيات القرن الماضي مثلًا كانت متساوية تمامًا، وكانت النساء في المنازل يربين الأطفال؛ لكن الآن الصورة مختلفة تمامًا؛ لكن فترة السبعينيات تلك كانت نقطة التحول التي بدأت معها تتحول النساء الحريديات إلى عاملات، والرجال إلى ربات بيوت بالعامية المصرية.

لكن وفقًا لموقع كاليكست الإسرائيلي المتخصص في الاقتصاد؛ فإنه حال وصول الحريديم في إسرائيل إلى المستويات المتوقعة بحلول 2065؛ فإنه بدون تغيير في معدلات توظيف الرجال المتدينين، سيصل الضرر على الناتج المحلي الإجمالي إلى 13% سنويًا؛ مع خفض النمو المحتمل للاقتصاد من 4% سنويًا إلى 2.5% فقط، وسيكون من الضروري زيادة الضرائب المباشرة (ضريبة الدخل) بنسبة 16%، وسيخسر الاقتصاد نصف مليون من الأيدي العاملة.

كيف تتمكن إسرائيل من تجاوز هذه الإشكالية؟

يتفق الكثير من المهتمين بالمعضلة الحريدية داخل المجتمع الإسرائيلي على ضرورة تطبيق قانون المساواة في العبء، وهو القانون الذي لا يطبق على الطائفة الحريدية بشأن التجنيد الإلزامي؛ وهو ما أعاده قرار المحكمة العليا الإسرائيلية التي أصدرت قرارًا بإلزام تجنيد الشباب الحريدي، خاصة بعد الخسائر التي مُني بها الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة، والتي وصلت إلى 62 قتيلًا بين صفوف القادة، ونحو 585 جنديًا إسرائيليًا.

قضية التجنيد الإلزامي للشباب الحريدي من القضايا الشائكة ونقطة الخلاف الجوهرية داخل المجتمع الإسرائيلي منذ إقامة دولة إسرائيل، وتفاقم الخلاف بشأن هذه القضية بين المؤيدين والمعارضين بعد أن أصبح أغلب أفراد المجتمع الحريدي داخل إسرائيل من الشباب، وذلك بعد ارتفاع عدد الحريديم المعفيين إلى أكثر من 12 ألف شاب في دورة التجنيد 2023، أي ما يعادل 16 في المائة من مجمل عدد الإسرائيليين الذين بلغوا سن الخدمة الإلزامية في الجيش، حيث يعارض كبار حاخامات وقادة الحريديم خدمة الطلاب الحريديين بالجيش الإسرائيلي، لأسباب دينية تشير إلى إعفاء الدارسين للتوراة من مهمة الحراسة؛ لإتاحة الوقت لهم للتبحُّر في دراستها جنبًا إلى جنب مع التقاليد اليهودية؛ والأسباب الأخرى تتعلق كما أشرنا سابقًا إلى الاختلاط بين الرجال والنساء في الجيش.

ويتلخص حكم المحكمة العليا الإسرائيلية الأخير والصادر في يونيو الماضي بشأن تجنيد الحريديم، في أنه لا يوجد حاليًا قانون يسمح بتأجيل تجنيد طلاب المدارس الدينية، مما قد يؤدي إلى اعتقال من لا يلبي شروط التجنيد، الأمر الذي يتبعه فوضى؛ أما الجانب الآخر فهو تجميد ميزانية المدارس الدينية التي لا يلتحق طلابها بالجيش الإسرائيلي؛ وعليه فقد يحفز هذا القرار الالتحاق بالتجنيد للحصول على تمويل تعليمهم، أو أيضًا إلى الفوضى، وهو ما أدى حتى الوقت الحالي إلى فوضى، حيث تظاهر الآلاف من الحريديم ضد هذا القرار.

ويرى الدكتور يتسحاق كلاين، من معهد مشغاف للأمن القومي الإسرائيلي، أن ظاهرة رفض المجتمع الحريدي الانضمام إلى الجيش الإسرائيلي موجودة لأن الدولة توافق على تمويله؛ وظاهرة رفض المجتمع الحريدي اكتساب مهارات العمل الأساسية موجودة لأن الدولة توافق على تمويله.

يرى كلاين في مقاله أن إسرائيل عليها التخلي عن وساطة الأحزاب الحريدية وتحدد علاقتها بالفرد الحريدي، والتي تقوم على مبدأين؛ الأول: إرسال ابنك إلى مؤسسة تعليمية دينية، لن تموله الدولة؛ فالإشراف على دراسته يجب أن يكون تابعًا لوزارة التعليم الإسرائيلية، وليس جهازًا خاصًا بالحريديم، كما هو الحال اليوم؛ أما الثاني: فإن الامتناع عن تأدية التجنيد، سيترتب عليه إلغاء تمويل الدولة لدراسة الحريديم، وعدم الحصول على الحقوق الاجتماعية.

# الحريديم # إسرائيل

«معركة خلدة»: عن الهزائم التي تلد انتصارات
تل أبيب: قصة الحي الشعبي الذي أصبح قلب إسرائيل
الشابات: كيف نفهم حياة الحريديم في الأراضي المحتلة؟

فلسطين